دعم الموسوعة:
Menu

ديوان القرن الرابع الجزء الاول:


أثر نشوء الدول في إغناء النتاجات الأدبية


يمثل النظم انعكاسا للواقع الذي يعيشه الشاعر، وما ينشئه أو ينشده هو امتداد لذلك الواقع وما يحيطه به من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية، كون الشاعر صوت الأمة كما هو صوت السلطة، وإذا انبثقت السلطة من رحم الأمة وعبرت عن أفراحها وأتراحها، وتناغمت مع آمالها وآلامها، كان الشاعر حينئذ ممثلا لكليهما، وهذه الحالة قلما شهدها العالم الإسلامي عبر القرون، ولذلك أمكن تصنيف الناظمين إلى شعراء إلتزام وشعراء سلطة، وجرت بين الطبقتين مماحكات كثيرة خلقت استقطابات إلى هذا الجانب والى ذاك، كان شعر الهجاء من أبرز معالمها.
ولما كانت القرون الأولى من عهد الأمة الإسلامية حافلة بالثورات والانتفاضات والحروب الداخلية والخارجية، وأثمر سقوط حكم الخلافة الراشدة في العام 41 هجرية بقيام الصلح بين الخليفة الإمام الحسن (ع) (ت 50هـ) ومعاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ)، وظهور المملكة الأموية وسقوطها في العام 132 وظهور الحكم العباسي وما تخللته من حكومات موضعية هنا وهناك توفر الولاء للعاصمة المركزية تارة وتستقل تارة أخرى، هذه التطورات الدراماتيكية ألهبت صفحة الشعر، فظهر تضارب الشعراء في ولاءاتهم. بيد أن الشيء البارز هو إدانة الشعراء في مختلف القرون والعصور لأكبر جريمة حدثت في تاريخ البشرية وهي حرب الإبادة التي شنها البيت الأموي لتصفية البيت النبوي متمثلا بقتل الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء المقدسة في العام 61هـ وما تلتها من فضائع.
المحقق الدكتور محمد صادق بن محمد الكرباسي يواصل في كتابه المعنون "ديوان القرن الرابع" في جزئه الأول، الصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن، في 422 صفحة من القطع الوزيري، متابعة الإنتاج الشعري المنظوم في الإمام الحسين (ع) ونهضته المباركة، مصدرا ذلك بتمهيد يقرأ فيه الواقع السياسي والاجتماعي الذي اصطبغ به القرن الرابع الهجري، مجريا مقارنة بين هذا القرن والذي سبقه، وقد لاحظ: "تضاعف الشعر في هذا القرن كماً وكيفاً، وانحسار المقطوعات وظهور القصائد الطوال، وبروز حرية التعبير من خلال الشعر". وكان لتقلص نفوذ الدولة العباسية بعد سيطرة الأعاجم على مقدرات الأمور، وظهور دول عدة مستقلة عن العاصمة تميل بعضها إلى أهل البيت (ع)، العامل المساعد الذي وفَّر لشعراء تلك المرحلة حرية النظم والنقد (الهجاء) في آن واحد، فضلا عن أن من خاصية دماء الإمام الحسين (ع) أن جذوتها لا تخمد، وكما قال فيه جده محمد (ص): (إن لولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد إلى يوم القيامة) البحار: 43/27، وصدق الشاعر عندما أنشد من بحر الخفيف:
كذب الموت فالحسين مخلد *** كلما أخلق الزمان تجدد

نهضات وحكومات
وهذه الحرارة أيقظت النفوس وحركت المشاعر والأحاسيس، ترجمها المسلمون في ثورات وانتفاضات وحكومات، يشير المحقق الكرباسي إلى أبرزها، ففي العصر الأموي حصلت: انتفاضة أهل المدينة المنورة في العام 64هـ، انتفاضة التوابين في العراق في العام 65 هـ، ثورة المختار الثقفي في العراق في العام 66هـ، ثورة ابن الزبير في العام 67 هـ، نهضة زيد بن علي في العام 122 هـ، انتفاضة يحيى بن زيد بن علي في إيران في العام 125 هـ، حركة عبد الله بن معاوية في العراق وإيران في العام 126 هـ، وانقلاب العباسيين في العام 132 هـ.
وفي العصر العباسي الذي اشتد أذى الحكام على العلويين والموالين، ظهرت حركات وانتفاضات وثورات عدة، يشير المحقق إلى أبرزها: حركة عيسى بن زيد بن علي في العراق في العام 137 هـ، حركة النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن (ع) في الحجاز في العام 145 هـ، انتفاضة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى في البصرة في العام 145 هـ، حركة الحسين بن علي بن الحسن المثنى صاحب فخ في الحجاز في العام 169 هـ، قيام إدريس بن عبد الله بن الحسن في المغرب في العام 172 هـ، حركة يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنى في الديلم في العام 176 هـ، خروج ابن طباطبا محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى في الكوفة في العام 199 هـ، انتفاضة الديباج محمد بن الإمام جعفر الصادق (ع) في الحجاز في العام 200 هـ، حركة إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (ص) في اليمن في العام 200 هـ، ونهضة عبد الرحمان بن احمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن الإمام علي (ع) في اليمن في العام 207 هـ.
وحاول حكام بني العباس في بعض الفترات استمالة أئمة أهل البيت (ع) ما أمكنهم ذلك، بخاصة وان دولتهم قامت تحت شعار الرضا من أهل البيت (ع)، لكن الدول الموضعية قامت هنا وهناك واتسع الرقع على الراقع، فقد أنشأت لأول مرة دولة موالية لأهل البيت (ع) وهي دولة الأدارسة بمراكش في الفترة (177-305هـ)، دولة الباوندية في مازندران في الفترة (223-418هـ)، الدولة العلوية في طبرستان في الفترة (250-316هـ)، الدولة الصفارية في سيستان في الفترة (253-300هـ)، الدولة الحمدانية في الموصل وحلب في الفترة (279-381 هـ)، الدولة الفاطمية في تونس والقاهرة في الفترة (297-567هـ)، الدولة الزيادية في قزوين في الفترة (316-374هـ)، الدولة البويهية في شيراز في الفترة (321-487هـ)، الدولة العمرانية (بني شاهين) في البطيحية في الشام في الفترة (338-374هـ)، والدولة العقيلية في نصيبين في الفترة (380-495هـ)، وغيرها.
وكان لقيام هذه الدول أثره الكبير في إثراء الإنتاج الشعري وإغنائه، إذ: "ما أن استقرت دول الموالين والعلويين إلا وقصدهم الشعراء بقصائدهم التي لا تخلو عن ذكر ملهم فكرة مقارعة الظالمين، ومناهضة الطغاة ألا وهو إمام الأحرار أبو عبد الله الحسين (ع).. وهنا يكمن السر في قلة الشعر في القرنيين الماضيين وارتفاع نسبته فجأة في هذا القرن".

وكانت الأطلال وكانت المرأة
لم يتخل الشاعر العربي في القرن الرابع وما قبله وما بعده عن أغراض الشعر الجاهلي، وبخاصة في دائرة افتتاح القصيدة القائم على الوقوف على الأطلال وذكر المرأة، حتى وهو يرثي الإمام الحسين (ع) وما حلّ به وبأهل بيته وأصحابه، فإذا كان امرئ القيس حندج بن حجر الكندي (ت 540 م) يفتتح معلقته من بحر الطويل بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب *** ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
كأني غداة البين يوم تحملوا *** لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وإذا كان كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني (ت 26 هـ) يقف أمام الرسول محمد (ص) ينشده لاميته الرائعة، من بحر البسيط بقوله:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلا أغن غضيض الطرف مكحول
فان تميم بن معد (المعز لدين الله) الفاطمي (ت 374 هـ) يبتدئ داليته في رثاء الإمام الحسين (ع) بما كان يبتدئ به الشعراء الأوائل، بقوله من بحر الطويل في خمسين بيتا، تحت عنوان "بان العزاء":
نأت بعد ما بان العزاءُ سعادُ *** فحشوُ جفون المقلتين سُهادُ
فليت فؤادي للظعائن مربعٌ *** وليت دموعي للخليط مزادُ
إلى أن يصل موضع الشاهد:
فكم كربة في كربلاء شديدة *** دهاهم بها للناكثين كيادُ
ويضيف:
تُداس بأقدام العصاة جسومهم *** وتدرسهم جُردٌ هناك جيادُ
فماتوا عطاشى صابرين على الوغى *** ولم يجبنوا بل جالدوا فأجادوا
وهذا إسماعيل الصاحب بن عباد الديلمي (ت 385 هـ)، يبدأ رائيته البديعة في رثاء الإمام حسين (ع)، بقوله من بحر الكامل في قصيدة من 64 بيتا، تحت عنوان "يوم يعضون أكفهم:
ما بال علوى لا ترد جوابي *** هذا وما ودّعت شرخ شبابي
أتظن أثواب الشباب بلمتي *** دَورَ الخضابِ فما عرفت خضابي
إلى أن يقول:
قتلوا الحسين فيا لَعَولي بعده *** ولَطول نَوحي أو أصير لما بي
وهم الألى منعوه بَلَّة غُلَّة *** والحتف يخطبُهُ مع الخطاب
أو قوله في الإمام الحسين (ع) من قصيدة من الطويل، في مدح أبيه علي بن أبي طالب (ع)، يقول في مطلعها:
لقد رحلت سعدى فهل لك مسعد *** وقد أنجدت علوى فهل لك منجد
إلى أن يقول:
وبالحسنين المجدُ مدَّ رُواقَه *** ولولاهما لم يبقَ للمجد مشهدُ

أحقاد بلا حدود
من يقف على سيرة يزيد بن معاوية (ت 64هـ) ومن قبل أبيه معاوية، يخرج بحصيلة مفادها أن الحكم الأموي بتحويله الخلافة إلى ملك عضوض، إنما سار ضمن أجندات مختمرة في عقلية الحاكم الأموي قائمة على حقد دفين وضغينة مستترة لصاحب الرسالة وأهل بيته ولصحابته المنتجبين الذين قام الدين على أكتافهم، فعندما أقدم يزيد على قتل الإمام الحسين (ع) تمثلت بين يديه بطولات الإمام علي في بدر والخندق وإطاحته لرؤوس الشرك من أجداد يزيد وأعمامه وأخواله، وعندما استباح المدينة المنورة في العام 62 هـ واعتدى على نسائها، تمثلت أمامه بطولات الأنصار في المعارك بالضد من مشركي مكة ومنهم أجداده وأعمامه، وعندما ضرب الكعبة بالمنجنيق ولأول مرة في تاريخ العالم الإسلامي، تمثلت بين يديه الأصنام وهي تتهاوى في فتح مكة في العام 8 هجرية وتراجع أهلها عن نصرة أجداده وأعمامه المشركين.
ولم يكذب يزيد عندما تمثل وضمّن قول الشاعر عبد الله بن الزبعرى السهمي (ت 15 هـ) من بحر الرمل أنشدها يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جَزعَ الخزرجِ من وقع الأسلْ
لو رأوهُ لآستهلّوا فَرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تُشلْ
ثم يكمل:
لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل
ولم يخطأ الشاعر علي بن حماد العدوي (ت 400 هـ) كبد الحقيقة عندما أنشد من الوافر قصيدته البائية من 74 بيتا تحت عنوان "ذكرى الحسين"، يشير إلى إن يزيد وأضرابه من بني أمية كانوا بقتلهم الإمام الحسين (ع) ينتقمون لأجدادهم من الإمام علي (ت 40 هـ) وحمزة بن عبد المطلب (ت 3 هـ) وجعفر بن أبي طالب الطيار (ت 8 هـ) الذين جندلوا في ساحات الوغى رجالات المشركين وأضرابهم:
ولكن أضمروا بُغضا وحقداً *** ضغائن في الصدور لها لهيبُ
تشبُّ سعيرها بـدرٌ وأُحـدٌ *** وخيبرُ والأسارى والقليبُ
ويقول الشاعر احمد بن محمد الصنوبري (ت 334هـ) في قصيدة من 56 بيتا من بحر المجتث يرثي الرسول (ص) تحت عنوان "يا عين فيضي"، ثم يصل إلى سبطه الحسين (ع) فينشد:
سبحان مَن يُمسكُ الأر *** ضَ حلمُهُ أن تمورا
أبحتُم من أبيه *** وجده محظورا
ثأرتمُ أهل بدرٍ *** لمّا وجدتم ثُؤورا
أو قول تميم بن معد الفاطمي في قصيدة "بان العزاء" يقول فيها من بحر الطويل:
بثارات بدر قاتلوهم ومكةٍ *** وكادوهم والحقُّ ليس يُكادُ
وكان الكفر الصريح برسالة محمد (ص) محل أنظار الشعراء، فسجلوه في أبياتهم، فهذا طلحة بن عبد الله العوني (ت 350هـ) ينشد من الرجز التام تحت عنوان "أبو الخلائف":
الأول المسموم والثاني الذي *** بقتله رهطٌ ملاعين كَفَر
فالمسموم هو الإمام الحسن (ع) اغتاله معاوية بن أبي سفيان، والمقتول هو الإمام الحسين (ع).
ورغم محاولات البعض تنزيه يزيد عن جريمة قتل الإمام الحسين (ع)، لكن وقائع التاريخ تكذب أحلام هذا البعض، بخاصة وان عبيد الله بن زياد (ت 67هـ) واليه على العراق تسلم من يزيد بن معاوية رسالتين يشترط عليه قتل الإمام الحسين (ع) وإلا نزع عنه نسبه، وأرجعه وأبيه إلى سمية كما كان زياد ينسب إلى أبيه من قبل فيقال زياد بن أبيه قبل أن يقوم معاوية بتقبل نسبه، ضاربا بذلك فقه محمد (ص) عرض الحائط، عندما قرر النبي (ص): (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فمما جاء في الرسالة الأولى: "فإن قتلته – الحسين – وإلا رجعت إلى نسبك". والثانية يحضه على التصفية الجسدية الكاملة لأهل البيت (ع)، فيقول له: "واجتهد ولا تبق من نسل علي بن أبي طالب أحدا".
وصدق الشاعر علي بن محمد التنوخي (ت 342هـ) بقصيدة من الطويل في 81 بيتا بعنوان "محال"، مطلعها:
من ابن رسول الله وابن وصيّه *** إلى مدغل في عقدة الدين ناصب
إلى أن يصل موضع الشاهد:
قفوتم يزيداً في انتهاك حريمه *** بكل معادٍ للإله محارب

ولزيد قصته
ويكاد اسم حمزة بن عبد المطلب (ع) وجعفر الطيار (ع) يتكرر في قصائد الولاء إلى جانب الإمام الحسين (ع)، مما يعكس عظمتهما في الإسلام، كما يلاحظ ذلك في أشعار الولاء والرثاء في القرن الأول والثاني والثالث، وفي هذا القرن، لكن القرن الثاني وما بعده ضم اسما جديدا هو زيد بن علي بن الحسين بن علي (ع) وثورته في الكوفة في العام 122 هـ، فقلما يذكر الامام الحسين (ع) وشهادته دون أن يذكر حفيده، وربما كانت البشاعة التي قوبل بها شخص زيد الشهيد في حياته وبعد وفاته، قد تركت أثرا تراجيديا في ضمير الشعراء مما جعلهم يقرنونه بواقعة الطف بكربلاء المقدسة كلما تذكروا أو ذكروا الإمام الحسين (ع) وما حل بأهل البيت (ع) من مصائب، فزيد الشهيد لم يكتف الأمويون بقتله، إنما عمد يوسف بن عمر الثقفي (ت 127هـ) والي هشام بن عبد الملك (ت 125هـ) على نبش قبره ثم صلبه مع جماعة من أصحابه في منطقة الكناسة من الكوفة، وبقي مصلوبا أربع سنين حتى أمر الوليد بن يزيد بن عبد الملك (ت 126هـ) بإحراقه وتذريته في العام 126هـ، ومن مفارقات القدر أن يوسف الثقفي هذا، قتل في سجن الشام شر قتلة ورموا بجثته في الشارع وشدت الصبيان الحبل في رجليه وراحوا يجرونه في الأزقة!
ولذكر زيد الشهيد، يقول الشاعر علي بن حماد العدوي، من الكامل في احد عشر بيتا تحت عنوان "الغريب النازح":
يا آل بيت محمد حزني لكم *** قد قلّ عنه تصبري وتجلدي
ما للنوائب أنشبت أنيابها *** فيكم فبين مهضّم ومشرّدِ
إلى أن يقول:
ألذاك أبكي أم لمصلوب على *** أعواده وسط الكُناس مجــرّدِ
أبكي لمنبوشٍ ومصلوبٍ ومحـ *** ـروقٍ مُذرى في الرياح مبدّدِ
أو قوله في مقطوعة من الكامل تحت عنوان "يا دهر"، يقول فيها:
يا دهر ما أنصفتَ آل محمد *** في سالف ٍ من أمرهم وقريب
إلى أن يقول:
ومجدَّلٍ ظامٍ ومنكوسٍ على *** أعواد جذعٍ بالكُناس صليب
فالمجدل إشارة إلى الإمام الحسين (ع) والمنكوس إلى زيد الشهيد الذي صلب منكوسا.
أو قول تميم بن معد الفاطمي في قصيدة من الخفيف تحت عنوان "أين جدي" ومطلعها:
قسمة الموت قسمة لا تجور *** كلُّ حيّ بكأسها مخمور
إلى أن يقول:
أين جدّي حسينٌ بنُ عليٍّ *** أين زيدُ المُفجَعُ الموتورُ
في الواقع إن نبش قبر زيد بن علي وتركه مصلوبا منكسا لسنوات أربع أمام باب الكناسة في مدينة الكوفة التي هي موطن الموالين لأهل البيت (ع) يعكس حجم الإرهاب والعنف والقمع الذي كان يمارسه النظام الأموي بالضد من الشعب العراقي آنذاك، ومن بعده النظام العباسي والأنظمة التي تلته.

تمثّل النص والأثر
ترك القرآن الكريم ونصوص السنة وأدبهما الراقي تأثيرهما الكبير على النتاج الأدبي بشقيه النثري والشعري وأغنى الأدب العربي إضافة إلى آداب الشعوب الإسلامية غير العربية، وفي مجال النظم القريض، يلاحظ التأثير بشكل واضح، لاسيما وان القرآن الكريم ينفتح على كل الاتجاهات، وعليه جرت ثقافة السنة الشريفة، ومن مظاهر التأثر بالمنهج القرآني إستحضار الشعراء للآيات القرآنية ونصوص السنة وتمثلهما في أبياتهم، ويكثر هذا النظم عند الملتزمين منهم، ويمكن اعتبار قصائد ومقطوعات وأبيات وردت في ديوان القرن الرابع ترجمة شعرية للنص القرآني والأثر النبوي.
ومن شواهد التمثل القرآني، قول علي بن حماد العدوي من الخفيف في قصيدة من 94 بيتا بعنوان "حيّ قبراً" يستحضر فيها سورة الإنسان أو الدهر النازلة في الحسنين وأمهما وأبيهما، يقول في بعض منها:
إن الأبرار يشربون بكأس *** كان عندي مزاجها كافورا
فلهم أنشأ المهيمن عيـناً *** فجروها لديهم تفجـيرا
وهداهم وقال يوفون بالنذ *** ر فمن مثلهم يوفي النذورا
ويخافون بعد ذلك يوما *** شره كان في الورى مستطيرا
فوقاهم إلههم ذلك اليو *** م ويلقون نضرة وسرورا
وهذه الأبيات تمثلها الشاعر من سورة الإنسان الآية 5-11، في قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا. يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسرورا).
ومن تمثل السنة النبوية قول الشاعر محمود (كشاجم) بن الحسين السندي (ت 360 هـ)، من المتقارب في قصيدة من 38 بيتا تحت عنوان "لقد هتكت حُرم المصطفى"، يقول فيها:
سفينة نوح فمن يعتلق *** بحبهم مُعلقٌ بالنجاء
وقد استوحى البيت من قول النبي محمد (ص): (إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها غرق).
وقد يعمد الشاعر إلى تمثل القرآن والسنة معا، من قبيل قول الشاعر علي بن حماد العدوي في قصيدة من الوافر في 64 بيتا، تحت عنوان "دعوت الدمع" يقول فيها:
وآخاه النبي بأمر ربِّ *** كما عن أمره آخى الصحابا
فصار لنا مدينة كل علم *** وصار لها علي الطهر بابا
فالبيت الأول هو استيحاء من قول تعالى في الآية 10 من سورة الحجرات: (إنما المؤمنون أخوة)، فعن عبد الله بن عباس (ت 68 هـ) قال: لمّا نزل قوله تعالى:(إنّما المؤمنون إخوة) آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين الأشكال والأمثال، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن، وبين سعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد، وبين طلحة والزبير، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين مصعب بن عمير وأبي أيّوب الأنصاري، وبين أبي ذرّ وابن مسعود، وبين سلمان وحذيفة، وبين حمزة وزيد، وبين أبي الدرداء وبلال، وبين جعفر الطيّار ومعاذ بن جبل، وبين المقداد وعمّار، وبين عائشة وحفصة، وبين زينب بنت جحش وميمونة، وبين أم سلمة وصفيّة، حتى آخى بين أصحابه بأجمعهم على قدر منازلهم، ثمّ قال: يا عليّ، أنت أخي وأنا أخوك).
أما البيت الثاني فهو تمثل لقول الرسول (ص) في علي (ع) كما في صحيح الترمذي: 2/301: (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب).

حلقة وصل
استوعب ديوان القرن الرابع الهجري في جزئه الأول قافية الهمزة حتى السين في 82 قطعة، كان للشاعر علي العدوي من القصائد والمقطوعات تسع عشرة، يليه احمد بن محمد الصنوبري وله تسع، وإسماعيل بن عباد الديلمي وتميم بن معد الفاطمي ولهما ثمان، يليهما محمد السوسي في سبع، وتوزعت البقية على كل من ابن بديل الكاتب (ق 4هـ)، احمد الضبي (398هـ)، حسين (ابن الحجاج) النيلي (391هـ)، حسين البشنوي (بعد 380هـ)، السري الرفاء (344هـ)، سعيد الخالدي (371هـ)، سلامة الموصلي (390هـ)، طلحة العوني، علي الزاهي (352هـ)، علي (الناشئ الصغير) البغدادي (365هـ)، علي التنوخي، عيسى (ابن الرضا) الرضوي (بعد 325هـ)، فنا خسرو (عضد الدولة) البويهي (372هـ)، محمد (ابن دريد) الأزدي (321هـ)، محمد الجواليقي (384هـ)، محمد الخالدي (376هـ)، محمد بن هانئ الأندلسي (362هـ)، محمود (كشاجم) السندي، ومنصور (الفضة) التميمي (306هـ).
ودعم المحقق الكرباسي الديوان بواحد وثلاثين فهرسا في نواح شتى، وهي بمثابة مفاتيح إلى متون الديوان وهوامشه. وختمه بقراءة للديوان كتبها العالم السويدي، المسيحي المعتقد، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة آبّسالا السويدية، الدكتور يان هنينغسون (jan a. henningsson)، عبر فيها بوصفه سكرتير الشؤون العقائدية في الكنيسة السويدية أيضا، عن قناعته بأن: "بعض التقاليد والرموز الإسلامية تكون قريبة لقلب المسيحيين، ومن تلك الرموز سبط الرسول محمد: الحسين بن فاطمة، تلك المتألقة، وابن ذلك المكافح الحكيم الخليفة علي"، وعن حقيقة نظرة المسيحيين إلى الحسين الشهيد، أضاف: "هذه مشاعرنا نحن المسيحيين تجاه الحسين أولا، والمأساة التي أدت إلى استشهاده وظروفها ثانيا"، وأكد هنينغسون على: "وجود مفاهيم مشتركة بين الإسلام والمسيحية من النظرة الشعبية، ولابد أن لا تكون التقاليد عائقا في التقارب بين المسيحيين والمسلمين، فهناك دائما صلة قريبة ومعاني متقاربة لفهم بعضنا البعض بتناغم الإيمان للسير في طريق الحق لمن يريد أن يسير، والطريق ليس شائكا للذي يريد المشي نحو كربلاء .. ويخطو بخطى ثابتة نحو الإمام الحسين"، وخلص العالم السويدي إلى انه: "يمكن لدائرة المعارف الحسينية هذه أن تساعد على تحقيق حوار بين المسلمين والمسيحيين لأنهم يلتمسون التعاليم من الله .. وبالفعل يمكن أن يكون الحسين حلقة وصل بين المسيحيين والمسلمين..".